من القواعد الفقهية التي وضعها الفقهاء بناء على استنباطهم لها من القرآن والسنة قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، ومعنى هذا أنه إذا تعذر على الإنسان أن يقوم بفعل الأكمل لا يسقط عنه الأقل درجة، وإذا عجز عن فعل الكل لا يسقط فعل البعض.
القواعد المماثلة لقاعدة الميسور
فقد ورد أن: “عدم القدرة على الكل لا يسقط البعض المقدور عليه”. ]الموسوعة الفقهية الكويتية 10/79[.
وكذلك: “أن المأمور به إذا لم يتيسر فعله على الوجه المطلوب بل تيسر فعل بعضه لا يسقط بالمعسور، أي بعدم القدرة على فعل الكل ، فيجب البعض المقدور عليه”. ]القواعد الفقهية وتطبيقاتها 2/761[ .
مثال على قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور
من عجز أداء الصلاة على وجهها الأكمل بأدائها قائما لا تسقط عنه الصلاة كلية بعجزه عن القيام فيها وإنما يؤديها جالسا أو نائما على جنب.
ومن عجز عن إنكار المنكر بيده لا يسقط عنه إنكار المنكر كلية وإنما ينتقل للدرجة الأقل، فينكر بلسانه، فإن عجز عن إنكار المنكر بلسانه ينكره بقلبه وهذا هو أضعف الإيمان.
ما يفيد معنى الميسور لا يسقط بالمعسور
هناك الكثير من القواعد الفقهية التي وردت بألفاظ أخرى لكنها تفيد نفس هذا المعنى منها : “إذا تعذر العدالة في الولاية العامة أو الخاصة، بحيث لا يوجد عدل، ولّينا أقلهم فسوقًا”. ]القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير 1/103[.
“الضرورات تقدر بقدرها” أو “ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها”. ]الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية 1/239[.
“المشقة تجلب التيسير فهي داخلة أيضا في العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات”. ]الغيث الهامع شرح جمع الجوامع 1/659[.
“لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة”. ]إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/17[.
“الأحكام الشرعية مبنية على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين ، فمن ذلك أنها مشروطة بالقدرة والاستطاعة ، وأنها قائمة على تحقيق مصالح الخلق ودفع المفاسد عنهم “. ]معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة 1/358[.
“المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه”. ]الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية 1/70[.
الدليل من القرآن على الميسور لا يسقط بالمعسور
قال تعالى : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا). قال الواحدي: ” ما أعطاها من الرزق ، قال السدي : لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني ، وذلك أنه لو كلف الفقير أن يوسع فقد كلفه ما لم يؤته ، وإذا كلف الغني ذلك لم يكلفه إلا ما آتاه ” . التفسير البسيط
للواحدي (21/517) .
والمعنى: أن تكليف الله للعباد إنما يكون في حدود الطاقة والاستطاعة، فلا تكليف بما هو فوق الطاقة، فلا يكلف الله الفقير بمثل ما يكلف به الغني، فإذا كلف الله الفقير بأن يعطي من ماله مثل الغني يكون قد كلفه بما لم يؤته، ويكون تكليفا بالمستحيل، وإذا كلف الغني بذلك يكون قد كلفه الله بما آتاه.
الدليل من السنة على القاعدة
الدليل الأول:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ المَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا) فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ). ]رواه البخاري (338) ، ومسلم (368) بغير هذا اللفظ [.
شرح حديث عمر وعمار
وهنا نجد أن عمر بن الخطاب رأى عدم جواز الصلاة إلا بالغسل من الجنابة وأنه يجب أن ينتظر حتى يجد الماء، وأما عمار فتأول ورأى أن يجب التيمم لعدم وجود الماء لكنه قاس التيمم بالغسل فكما أن الغسل يكون للجسد كله كذلك يجب أن يكون التيمم للجسد كله فتمرغ وتقلب في التراب حتى يصل التراب لجميع الأعضاء كما يجب أن يصل الماء لكل الأعضاء في الغسل، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- بين لهم الحكم الصحيح وهو أنهم أصبحوا أصحاب ضرورة وفي هذه الحالة يجوز للمرء أن يتمم بالتراب بأن يضرب الأرض ضربة واحدة فيمسح بها وجهه وكفيه.
وهنا نجد أنه لما تعذر الغسل لم تسقط عنهم الصلاة وإنما جاز الانتقال للأدنى الذي يقدر عليه المرء فيتيمم.
الدليل الثاني على الميسور لا يسقط
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَدَّ وَقَالَ: (ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) ، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: ( ارْجِعْ فَصَلِّ ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ) ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ: ( إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا). ]رواه البخاري (757) ، ومسلم (397)[ .
شرح حديث ارجع فصل
فقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) إنما هو إطلاق بأن يقرأ المرء ما تيسر له من القرآن فإن عجز الإنسان عن قراءة الفاتحة لأنه أعجمي لا يعرف اللسان العربي أو لأنه أمي فلا يسقط عنه فرض الصلاة وإنما يجب عليه الصلاة بأي شيء تيسر له من القرآن غير الفاتحة، لكن إن أحسن الفاتحة فلا تجوز له الصلاة بغيرها، وإن لم يستطع أن يحفظ شيئا من القرآن يذكر الله.
قال الإمام الخطابي: “قوله : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن . ظاهره الإطلاق والتخيير ، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب ” . معالم السنن (1/210) .
حكم العاجز عن قراءة الفاتحة
قال عبد الرحمن الجزائري: “ما حكم العاجز عن قراءة الفاتحة؟ فقد اتفق الشافعية، والحنابلة على أن من عجز عن قراءة الفاتحة في الصلاة، فإن كان يقدر على أن يأتي بآيات من القرآن بقدر الفاتحة في عدد الحروف والآيات، فإنه يجب عليه أن يأتي بذلك.
فإن كان يحفظ آية واحدة أو أكثر فإنه يفترض عليه أن يكرر ما يحفظه بقدر آيات الفاتحة. بحيث يتعلم القدر المطلوب منه تكراره. فإن عجز عن الإتيان بشيء من القرآن بالمرة فإنه يجب عليه أن يأتي بذكر الله … فإن لم يفعل ذلك بطلت صلاته في هذين المذهبين: على أنه لا يجوز عندهم قراءة الفاتحة بغير اللغة العربية على كل حال…
أما الحنفية قالوا: من عجز عن العربية يقرأ بغيرها من اللغات الأخرى، وصلاته صحيحة.
وأما المالكية قالوا: من لا يحسن قراءة الفاتحة وجب عليه تعلمها إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه وجب عليه الاقتداء بمن يحسنها، فإن لم يجده ندب له أن يفصل بين تكبيره وركوعه ويندب أن يكون الفصل بذكر الله تعالى، وإنما يجب على غير الأخرس.
أما هو فلا يجب عليه. ]الفقه على المذاهب الأربعة للجزائري 1 / 209[.
الدليل الثالث على قاعدة الميسور
تدخل قاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور في صور كثيرة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكر له درجات في دفعه وما يصلح لشخص لا يصلح لآخر، وما يصلح في زمان ومكان لا يصلح في غيرهما، وقد جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الدرجات في الحديث الذي رواه طارق ابن شهاب قال: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ). ]رواه مسلم [ .
قال ابن رجب بعد أن ذكر عدة أحاديث : ” فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأما إنكاره بالقلب لا بد منه ، فمن لم ينكر قلبه المنكر ، دل على ذهاب الإيمان من قلبه ” . ]جامع العلوم والحكم 2/245[.
وقال الإمام الغزالي: “ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه، إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها”. ]إحياء علم الدين 2/319[.
قيل لابن مسعود – رضي الله عنه – من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . ]مجموع الفتاوى 28/127[.
وهذا هو المفتون الموصوف في الحديث المرفوع الذي رواه حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه– بأنه: (لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه). ]رواه مسلم[.