من الشبه التي يرددها البعض هي شبهة محاولة النبي –صلى الله عليه وسلم- الانتحار، وهم يريدون من وراء هذه الشبهة الطعن في صحيح البخاري، لكن كلامهم هذا أظهر جهلهم بصحيح البخاري وبمصطلحات المحدثين في كتبهم.
حديث انتحار النبي
روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، ]وهو التعبد[ الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك،
ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) -حتى بلغ- (علم الإنسان ما لم يعلم)
فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: (زملوني زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: (يا خديجة، ما لي) وأخبرها الخبر، وقال: (قد خشيت على نفسي) فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق،
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك،
فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، أكون حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أومخرجي هم) فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
قال ابن عباس: (فالق الإصباح) ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل)]أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبير / باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة 9 / 29 حديث رقم 6982[
معنى فيما بلغنا في الحديث
البلاغ معناه أن يقول الراوي بلغني عن فلان دون أن يذكر الواسطة بينه وبين من يروي عنه، وفي هذه الحالة لا نستطيع أن نعرف حال هذا الذي سقط؛ لذلك المحدثون يحكمون عليه بأنه حديث ضعيف؛ لأنه منقطع؛ لأننا لا نعرف حال هذا الذي سقط.
وعندما نتأمل في الحديث الذي ورد في البخاري نجد أن من رواة السند الذين رووا هذا الحديث عن عائشة –رضي الله عنها- هو معمر عن الزهري وقد ذكر هنا في الحديث قبل قوله: “ كي يتردى من رءوس شواهق الجبال” قوله: “فيما بلغنا”.
وهذا يدل على أن هناك انقطاعا بين الزهري والنبي –صلى الله عليه وسلم-، فالزهري من التابعين الذين لم يروا النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم طبقة من الرواة رأوا الصحابة ولم يروا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وهذا في اصطلاح المحدثين معناه أن هذا الجزء من الحديث ضعيف؛ لأن الإمام الزهري لم يذكر الواسطة بينه وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- وكأن الإمام البخاري تعمد ذكر هذا الجزء بصيغة البلاغ لينبه على ضعف هذا الجزء من الحديث، فالواسطة بين الزهري ورسول الله مجهولة.
الزيادة التي بها محاولة الانتحار مرسلة
هذه الزيادة ـ التي فيها محاولة الانتحار ـ أيضا مرسلة، فالحديث المرسل هو الذي يرويه التابعي مباشرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والحديث المرسل من أقسام الحديث الضعيف الذي لم يثبت، ولذلك هذه الرواية تسمى من: بلاغات الزهري،
قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث: “إن القائل فيما بلغنا هو الزهري ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه القصة وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا“]فتح الباري شرح صحيح البخاري 12 / 359[ .
إذا من الناحية الحديثية ودراسة الإسناد هذه الزيادة ضعيفة لم تثبت من ناحية السند ففيها انقطاع وهي من مراسيل التابعي.
افتراض صحة زيادة محاولة الانتحار
لو افترضنا أن الحديث صحيح فليس هناك ما يطعن في صحيح البخاري ولا في النبي –صلى الله عليه وسلم- وإنما له تخريجه اللائق بمكانة النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أصابه شيء من الحزن بسبب انقطاع الوحي فترة ليست باليسيرة فقد ورد في بعض الروايات أنها ثلاث سنوات، فلا عجب أن يصعد إلى قمم الجبال أملا في يلقى أمين الوحي جبريل الذي اعتاد على لقائه في هذا
الموضع، فهذه هي طبيعة الإنسان إذا فقد شيئا يذهب للبحث عنه في الموضع الذي اعتاد على أن يراه فيه.
وربما أن من رأى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يصعد لقمم الجبال ظن أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يريد أن يلقي بنفسه من فوقها؛ لأن صعودها خطر فكأن من يفعل ذلك كأنه يريد الانتحار، فهذا بحسب حال الرائي، لكن رسول الله –صلى
الله عليه وسلم- لم يرد هذا المعنى الذي ظنه هذا الرائي.
كذلك ربما لو حدث ذلك فليس هناك ما يطعن في النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لم يكن هناك تشريع يجب على النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يلتزم به وإنما كان هذا في بداية الأمر ولم هناك هناك أحكام ولا تشريعات.
مما سبق يتبين لنا أن شبهة محاولة النبي –صلى الله عليه وسلم- الانتحار شبهة باطلة لم تثبت من ناحية السند، وذكر الإمام البخاري لها بلفظ البلاغ يؤكد أنه أراد أن يؤكد على ضعف هذه الزيادة التي وردت في هذا الحديث، ومن ناحية المتن فله تخريجاته التي تليق بمكانة النبي –صلى الله عليه وسلم-.