يعتبر هذا الحديث أصلًا من أصول الدين، فهو كثير الفوائد عظيم القدر، حيث أن النية من أجل أعمال القلوب وأساس جميع الأعمال.
حديث إنما الأعمال بالنيات
عن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)[مسلم]
رواية حديث إنما الأعمال بالنيات
هذا الحديث من الأحاديث الغرائب التي حدث فيها تفرد، حيث تفرد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بروايته عن النبي –صلى الله عليه وسلم- لكن بالرغم من التفرد الذي حدث في أول الإسناد إلا أنه مشهور بالنسبة لآخره.
قال الإمام ابن دقيق العيد: “هذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله؛ لأنه لم يروه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن أبي وقاص، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر بعد ذلك فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة”[شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد]
تقدمة لحديث إنما الأعمال بالنيات
قال الإمام الشافعي عن هذا الحديث: “هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه”[جامع العلوم والحكم لابن رجب]
وذلك لأن عمل العباد يعتمد على أمور ثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح.
والنية التي محلها القلب أحد هذه الأقسام الثلاثة، بل هي الأساس الذي يترتب عليه غيره، فإن صلحت صلح ما بعدها وإن فسدت فسد ما بعدها.
وقال أبو عبيد: “ليس شيء من أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث أجمع وأغنى وأكثر فائدة وأبلغ من هذا الحديث”[التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن]
وكان من عمل كثير من العلماء والمحدثين أن يبدءوا كتبهم بهذا الحديث، كالإمام البخاري وغيره؛ لينبهوا على مقصدهم من الكتاب وليحثوا من ينظروا في كتبهم على أن تكون نيتهم كنية صاحب الكتاب وهو التقرب إلى الله -عز وجل-.
قال الإمام ابن دقيق العيد: “استحب العلماء أن تستفتح المصنفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أول كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاري. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ينبغي لكل من صنف كتاباً أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيهاً للطالب على تصحيح النية”[شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد]
الأعمال بالنية
إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، والأعمال تتناول أعمال الجوارح ومنها اللسان وما يصدر عنه من الأقوال، فهذه الأعمال ترتبط بالنية المصاحبة لها، والنية هي القصد والعزم ومحلها القلب، وكل عامل لا يحصل له إلا ما نواه بقلبه، أي أن العمل تبع للنية.
فصحة الأعمال وحصول الجزاء المترتب عليها إنما يكون بالنية التي على أساسها يقبل العمل أو يرد.
فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)[مسلم]
والكلام هنا في حديث: “إنما الأعمال بالنية” عام، وما بعده تخصيص لهذا العموم، فخص العام بالكلام عن الهجرة؛ لأنها المقصودة بالكلام.
الهجرة لله ورسوله
فمن عقد نيته في الهجرة على أن تكون خالصة من أجل الله ونصرة رسوله، فقد استحق الثواب العظيم ونال الثمرة المترتبة على الهجرة بسبب هجرته إلى الله ورسوله.
والهجرة: هي الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كالهجرة من مكة إلى الحبشة، وكالهجرة من مكة إلى المدينة، وتطلق الهجرة ويراد بها الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، ومن هذا ما كان من الهجرة بعد استقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة.
الهجرة من أجل الدنيا
ومن كانت هجرته لأجل عرض من الدنيا يريد تحصيله، كتحصيل شهوة المال أو شهوة الفرج، وكانت صورته في الظاهر صورة من خرج يطلب فضيلة الهجرة فإن هذا الظاهر لا ينفعه شيئا وإنما يجازى على نيته التي يقصدها بقلبه، فليس له من وراء هذا العمل إلا ما نواه بقلبه.
وهكذا نرى أن الجميع خرجوا يطلبون الهجرة لله ورسوله في ظاهرهم لكن النية هي التي فرقت بينهم فهذا كانت نيته خالصة لله وهذا كانت نيته من أجل الدنيا فكان الأول مهاجرا، والثاني مسافرا.
أقسام الناس في الهجرة
قد ورد في سبب هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أمر بالهجرة انقسم الناس إلى أقسام:
قسم تخلف عن الهجرة
1 – قسم تخلف عن الهجرة ولم يهاجر وهؤلاء ذمهم الله وقال عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ]سورة النساء : 97 [.
قسم لم يستطيعوا الهجرة
2 – وقسم لم يستطيعوا الهجرة بسبب عجزهم عن ذلك فأولئك قال الله عنهم: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)[سورة النساء : 98 ، 99]
قسم خرج مخلصا يريد الهجرة
3 – وقسم خرجوا مخلصين نيتهم لله فمدحهم الله في كتابه فقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[سورة النحل: 110].
قسم لم يخلص نيته في الهجرة
4 – وقسم خالفت نيتهم نية المخلصين فكان من هؤلاء من خرج ليس من أجل النصرة لله ولرسوله، وإنما من أجل الزواج بامرأة أو أي غرض من أغراض الدنيا.
قال أبو الزناد بن سراج: “إنما خص المرأة بالذكر من بين سائر الأشياء فى هذا الحديث؛ لأن العرب فى الجاهلية كانت لا تزوج المولى العربية، ولا يزوجون بناتهم إلا من الأَكْفَاء فى النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين فى مناكحهم، وصار كل واحد من المسلمين كفئًا لصاحبه، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة؛ ليتزوج بها، حتى سمى بعضهم مهاجر أم قيس”[شرح صحيح البخاري لابن بطال ج 1 ص 33 [.
أما اسم الرجل الذي هاجر من أجل امرأة ينكحها فغير معروف ولعله لم يُذكر من باب الستر عليه.
لكن لم تتفق كلمة العلماء على أن قصة أم قيس هي سبب ورود هذا الحديث، فمنهم من اعتبرها سبب ورود الحديث، قال الإمام العراقي: “قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: شَرَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي تَصْنِيفٍ فِي أَسْبَابِ الْحَدِيثِ كَمَا صُنِّفَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَوَقَفْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى يَسِيرٍ لَهُ قَالَ:
فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحِكَايَةِ عَنْ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ… مَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ الشُّرَّاحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ قِصَّةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ”[طرح التثريب في شرح التقريب ج 2 ص 25 [.
لكن رأى الإمام ابن حجر أن حديث ابن مسعود ليس فيه ما يدل على أنه سبب هذا الحديث فقال: “ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك”] فتح الباري شرح صحيح البخاري [.
ولا مانع من أن يشمل حديث: (إنما الأعمال بالنيات). قصة مهاجر أم قيس وغيرها لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فوائد من حديث إنما الأعمال بالنيات
اشتمل هذا الحديث على الكثير من الفوائد فمنها:
وجوب النية للأعمال
اتفق العلماء على وجوب النية في كل الأعمال؛ لأن النية عبادة فلا يقبل عمل من الأعمال إلا بالنية.
فمن شرب شيئا مباحًا لكنه عند شربه كان يعتقد أنه شيئا محرما أَثِمَ بذلك؛ لأنه قصد بنيته شرب المحرم، ولو شرب شيئا محرما لكن عند شربه له كان يعتقد أنه شيء مباح لا يأثم بذلك؛ لأنه لم يقصد بنيته شرب المحرم لكنه فوجيء بأنه من المحرمات.
من نوى شيئا ينال الأجر على حسب ما نواه، ومن عمل عملا ولم ينو به شيئا لا يحصل له أجر.
تحول العادات لعبادات
بالنية تتحول العادات إلى عبادات، فالنوم والأكل والشرب من الأمور الجِبِلِّية التي جُبِل الإنسان عليها ومع ذلك إذا وضع الإنسان لها نية كالتَقَوِّي بالأكل والشرب؛ لأجل الطاعة، وراحة البدن بالنوم؛ لينشط للطاعة، فإن هذه العادات تتحول إلى عبادات بسبب تلك النية التي صاحبتها.
الأجر في جماع الرجل زوجته
إذا جامع الرجل زوجته بقصد إعفافها وإعطائها حقها، وتحصيل الولد الصالح، وإعفاف نفسه عن الحرام فإنه في هذه الحالة يؤجر على هذا؛
لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)[مسلم]
أداء العمل بدون نية
إذا أدى الإنسان العمل بدون قصد ولا نية كان عمله مشابها لعمل البهائم، قَالَ السلف: “الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية”[التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن]
الأعمال التي لا يشترط النية لها هناك أعمال تشترط فيها النية من أجل أن تكون صحيحة كالصلاة والصيام والحج، وهناك أعمال أخرى يشترط فيها النية ليس من أجل أن تكون صحيحة وإنما من أجل أن يحصل العبد من ورائها على الثواب، كالأذان، وابتداء السلام ورده.
للمزيد: